الفصل الأول : فيما اختص به صلى الله عليه وآله وسلم في ذاته من الدنيا
أنموذج اللبيب
في
خصائص الحبيب
تأليف
الإمام العلامة جلال الدين السيوطي
المتوفي سنة911 هـ
بسم
الله الرحمن الرحيم
وبالله العظيم نستعين
الحمدُ لله الذي
أتقن بحكمته كل شيء فاحتبك، وبعث حبيبه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فأنار به كل حلك، وآتاه من المعجزات والخصائص ما
لم يُؤتَه نبي ولا مَلَك، وجعل جنده الملائكة تسير معه حيث سَلَك، صلى الله عليه
وعلى آله وصحبه ما سار فُلك ودار فَلك.
هذا أنموذج
لطيف، وعنوان شريف، لخصته من كتابي الكبير الذي جمعت فيه المعجزات والخصائص
النبوية بدلائلها، وتتبعت فيه الأحاديث الواردة في منصب النبوة وعظيم فضائلها،
قصرته على إيراد الخصائص سرداً وجيزاً، وميزت فيه كل نوع من أنواعها تمييزاً،
وسميته:
أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب صلى الله عليه وعلى آله وسلم
وما توفيقي إلا بالله عليه
توكلت وإليه أنيب، وينحصر في بابين:
الباب الأول
في
الخصائص التي اختص بها عن جميع الأنبياء ولم يؤتها نبي قبله
وفيه
أربعة فصول
الفصل
الأول : فيما اختص به صلى الله عليه وآله وسلم في ذاته من
الدنيا
اُختص صلى الله
عليه وآله وسلم بأنه أول النبيين خلقاً، وبتقدم
نبوته، فكان نبياً وآدم بين الماء والطين، وبتقدم أخذ الميثاق عليه، وأنه أول من
قال: بلى يوم ((ألست بربكم))، وخلق آدم وجميع
المخلوقات لأجله،وكتابة اسمه الشريف على العرش،
وكل سماء وما فيها والجنان وسائر الملكوت، وذكر الملائكة له في كل ساعة، وذكر اسمه في الأذان في عهد آدم وفي الملكوت الأعلى، وأخذ الميثاق على النبيين آدم فمن بعده أن يؤمنوا به
وينصروه، والتبشير به في الكتب السابقة، ونعته
فيها ونعت أصحابه وخلفائه وأمته، وحجب إبليس من
السموات لمولده وشق صدره في أحد القولين، وهو
الأصح، وجعل خاتم النبوة بظهره بإزاء قلبه حيث
يدخل الشيطان، وسائر الأنبياء كان الخاتم في يمينهم، وبأن له ألف إسم، وباشتقاق اسمه من اسم الله،
وبأنه سمي من أسماء الله بنحو سبعين اسماً، وبأنه سُمي
أحمد ولم يُسم به أحد قبله، وقد عُدَّت هذه الخصائص في حديث "مسلم".
وبإظلال
الملائكة له في سفره، وبأنه أرجح الناس عقلاً، وبأنه
أوتي كل الحسن ولم يؤت يوسف إلا شطره، وبغطه ثلاثاً عند ابتداء الوحي، وبرؤيته جبريل في صورته التي خلق عليها، عد هذه "البيهقي".
وبانقطاع
الكهانة لمبعثه، وحراسة السماء من استراق السمع، والرمي بالشهب، عدّ هذه "ابن
سبع".
وبإحياء
أبويه له حتى آمنا به، وبوعده بالعصمة من الناس، وبالإسراء وما تضمنه من اختراق السموات
السبع والعلو إلى قاب قوسين، ووطئه مكاناً ما وطئه نبي مرسل، ولا مَلَكٌ مُقرب،
وإحياء الأنبياء له وصلاته إماماً بهم وبالملائكة، وإطلاعه على الجنة والنار،عدَّ
هذه "البيهقي".
ورؤيته
من آيات ربه الكبرى، وحفظه حتى ما زاغ البصر وما طغى، وبرؤيته للباري تعالى مرتين،
وبركوب البراق في أحد القولين، وقتال الملائكة معه، وسيرهم معه حيث سار يمشون خلف
ظهره، وبإيتائه الكتاب وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، وبأن كتابه
مُعجـِزٌ ومحفوظ من التبديل والتحريف على ممر الدهور، ومشتمل على ما اشتملت
عليه جميع الكتب وزيادة، وجامع لكل شيء، ومستغن عن غيره، ومُيسر للحفظ، ونزل
منجماً، وعلى سبعة أحرف، ومن سبعة أبواب، وبكل لغة، عدَّ هذه "ابن
نقيب".
وقراءته بكل حرف
عشر حسنات، عدَّ هذه "الزركشي".
وقال صاحب
التحرير: فُضِّل القرآن على سائر الكتب المنزلة بثلاثين خصلة لم تكن في غيره.
وقال الحليمي في
"المنهاج" : ومن عظيم قدر القرآن أن الله خصه بأنه دعوةٌ وحُجةٌ
ولم يكن هذا لنبي قط، إنما كان يكون لكل منهم دعوة ثم تكون له حُجةٌ غيرها، وقد
جمعهما الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن، فهو دعوة بمعانيه، حُجةٌ
بألفاظه، وكفى الدعوة شرفاً أن تكون حُجتها معها، وكفى الحُجة شرفاً أن لا تنفصل
الدعوة عنها،وأعطي من كنز العرش ولم يُعط
منه أحدٌ، وخُصَّ بالبسملة والفاتحة وآية الكرسي وخواتيم سورة البقرة
والسبع الطوال والمفصل، وبأن معجزته مستمرةإلى يوم القيامة وهي القرآن، ومعجزات
سائر الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام انقرضت لوقتها، وبأنه أكثر الأنبياء
معجزات، فقد قيل أنها تبلغ ألفاً، وقيل: ثلاثة آلاف سوى القرآن فإن فيه ستين ألف
معجزة تقريباً.
قال الحليمي:
وفيها مع كثرتها معنى آخر، وهو أنه ليس في شيء من معجزات غيره ما ينحو نحو اختراع
الأجسام، وإنما ذلك في معجزات نبينا صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، وبأنه جمع له
كل ما أوتيه الأنبياء من معجزات وفضائل ولم يجمع ذلك لغيره، بل اختص كُلٍ بنوع.
وأوتي انشقاق القمر، وتسليم الحجر، وحنين الجذع، ونبع الماء من بين الأصابع، ولم
يثبت لواحد من الأنبياء مثل ذلك. ذكر هذه "ابن عبدالسلام".
وقال بعضهم: خص
الله تعالى بعضاً بالمعجزات في الأفعال كموسى، وبعضاً بالصفات كعيسى، ونبينا صلى
الله عليه وآله وسلم بالمجموع ليميزه، وبكلام الشجر وشهادتها له بالنبوة وإجابتها
دعوته، وإحياء الموتى وكلامهم، وكلام الصبيان في المراضع، وشهادتهم له بالنبوة.
ذكر ذلك "البدر الدماميني".
وبأنه
خاتم النبيين وآخرهم بعثاً فلا نبي بعده، وشرعه مؤبد إلى يوم القيامة لا يُنسخ، وناسِخٌ
لجميع الشرائع قبله، ولو أدركه الأنبياء لوجب عليهم الاتباع، وفي كتابه وشرعه
الناسِخ والمنسوخ، وبعموم الدعوة للناس كافة، وأنه أكثر الأنبياء تابعاً.
وقال السبكي: أُرسل للخلق كافة من لدن آدم، والأنبياء نواب له بعثوا
بشرائع له مُعْنِيَّـات، فهو نبي الأنبياء، وأرسل إلى الجن بالإجماع، وإلى
الملائكة في أحد القولين، ورجحه السبكي.
قال البارزي:
وإلى الحيوانات والجمادات والحجر والشجر، وبعثه رحمة للعالمين حتى الكفار بتأخير
العذاب، ولم يعاجلوا بالعقوبة كسائر الأمم المكذبة، وبأن الله أقسم بحياته، وأقسم
على رسالته، وتولى الرد على أعدائه عنه، وخاطبه بألطف ما خاطب به الأنبياء، وقرن اسمه باسمه في كتابه، وفرض على العالم طاعته،
والتأسي به، فرضاً مطلقاً لا شرط فيه ولا استثناء، ووصفه في كتابه عضواً عضواً،
ولم يخاطبه في القرآن باسمه، بل ((يا أيها النبي)) ((يا أيها الرسول)) وحرم
على الأمة نداءه باسمه.
وكره الشافعي أن
نقول في حقه: الرسول، بل: رسول الله، لأنه ليس فيه من التعظيم ما في الإضافة.
وفَرَض على من
ناجاه أن يقدم بين يدي نجواه صدقة ثم نسخ بعد ذلك، ولم يُرِه في أمته شيئاً يسوؤه
حتى قبضه الله تعالى، بخلاف سائر الأنبياء، وبأنه حبيب الرحمن، وجمع له بين المحبة
والخِلَّة، وبين الكلام والرؤية، وكلَّمه عند سدرة المنتهى وكلم موسى بالجبل، عدَّ
هذه "ابن عبدالسلام".
وجمع
له بين القبلتين: مكة وبيت المقدس، والهجرتين: بيت المقدس والمدينة، وجمع له بين
الحكم بالظاهر والباطن، وجمعت له الشريعة والحقيقة، ولم يكن للأنبياء إلا أحدهما
بدليل قصة موسى مع الخضر وقوله: "إني على علم لا ينبغي لك أن تعلمه، وأنت على
علم لا ينبغي لي أن أعلمه". ونصر بالرعب من مسيرة شهرٍ أمامه وشهر خلفه،
وأوتي جوامع الكلم، وأوتي مفاتيح خزائن الأرض على فرس أبلق، عليه قطيفة من سندس،
وكلمه بجميع أصناف الوحي. عدَّ هذه "ابن عبدالسلام".
وهبط إسرافيل
عليه ولم يهبط على نبي قبله. عدَّ هذه "ابن سبع".
وجمع له بين
النبوة والسلطان، عدَّ هذه الغزالي في "الإحياء".
وأوتي علم كل
شيء إلا الخمس التي في سورة لقمان، وهي قوله تعالى: (إن الله عنده علم الساعة
وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي
أرض تموت).
وقيل: إنه
أوتيها أيضاً وأمر بكتمها، والخلاف جار في الروح أيضاً، وبُيّن له من أمر الدجال
ما لم يُبيَّن لأحد.
وَوُعِد
بالمغفرة وهو يمشي حياً صحيحاً، ورُفِع ذِكره، فلا يذكر الله جل جلاله في أذان ولا
خطبة ولا تشهد إلا ذُكِر معه.
قال ابن عباس:
ما أمَّن الله أحداً من خلقه إلا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ليغفر
لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر).
وقال للملائكة: (ومن
يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم).
وقال عمر بن
الخطاب: ما تدري نفس ماذا مفعول بها ليس هذا الرجل الذي قد بُين لنا أنه قد غفر له
ما تقدم من ذنبه وما تأخر صلى الله عليه وآله وسلم أخرجه "الحاكم".
وعرض عليه أمته
بأسرهم حتى رآهم، وعرض عليه ما هو كائن في أمته حتى تقوم الساعة.
قال
الإسفرائيني: وعرض عليه الخلق كلهم من آدم فمن بعده، كما علم آدم أسماء كل شيء.
وهو سيد ولد
آدم، وأكرم الخلق على الله ، وأفضل من سائر المرسلين وجميع الملائكة المقربين،
وكان أفرسَ العالمين، عدَّ هذه "ابن سراقة".
وأُيِّدَ
بأربع وزراء: جبريل، وميكائيل، وأبي بكر، وعمر.
وأُعطي من
أصحابه أربعة عشر نجيباً، وكل نبي أعطي سبعة، وأسلم قرينه.
وكان أزواجه
عوناً له، وبناته وزوجاته أفضل نساء العالمين، وثواب أزواجه وعقابهن مُضاعف.
وأصحابه أفضل
العالمين إلا النبيين، ويقاربون عدد الأنبياء، وكلهم مجتهدون، ولهذا قال صلى الله
عليه وآله وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم".
ومسجده
أفضل المساجد، وبلده أفضل البلاد بالإجماع فيما عدا مكة، وعلى أحد
القولين فيها وهو المختار.
وقال الماوردي
والقاضي عياض: لا تقتل حيّات مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بالإنذار،
والحديث الوارد في إنذار الحيات خاص بها.
واُحِلت له مكة
ساعة من نهار، وحُرِّم ما بين لابتي المدينة، وتربتها مؤمنة، وغبارها يطفئ الجذام،
ونصف أكراش الغنم فيها مثل مثليها في غيرها من البلاد.
ولا يدخلها
الدجال ولا الطاعون، وصرف الحُمَّى عنها أول ما قدمها ونقلها إلى الجُحفة، ثم لما
أتاه جبريل بالحمى والطاعون أمسك الحمى بالمدينة وأرسل الطاعون إلى الشام، ولما
عادت الحمى إلى المدينة باختياره إياها لم تستطع أن تأتي أحداً من أهلها حتى جاءت
ووقفت ببابه واستأذنته فيمن يبعثها إليه، فأرسلها إلى الأنصار.
ويسأل
عنه الميت في قبره، واستأذن ملك الموت عليه ولم يستأذن على نبي قبله.
وحرم نكاح
أزواجه من بعده، وأَمَةٌ وَطِئـَها، والبقعة التي دفن فيها أفضل من الكعبة ومن
العرش.
ويُحرم التكني
بكنيته، وقيل: التسمي باسمه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، قيل والتسمي بالقاسم،
لئلا يُكنى أبوه أبا القاسم. حكاها النووي في "شرح مسلم".
ويجوز
أن يقسم على الله به وليس ذلك لأحد. ذكر هذه "ابن عبدالسلام".
ولم
تُرَ عورته قط، ولو رآها أحدٌ طُمست عيناه، ولا يجوز عليه الخطأ. عدَّ هذه "ابن
أبي هريرة" و "الماوردي".
قال قوم: ولا
النسيان. حكاه النووي في "شرح مسلم".
و ذكر البارزي
في "توثيق عرى الإيمان":
من خصائصه أنه
جامع لخواص الأنبياء، وأنه نبي الأنبياء، وأنه مامن نبي له خاصة نبوة في أمته، إلا
وفي هذه الأمة عالم من علمائها يقوم في قومه مقام ذلك النبي في أمته، ويَنحو منحاه
في زمانه، ولهذا ورد: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل".
وورد أن العالم
في قومه كالنبي في أمته.
قال: ومن خواصه
أن سماه الله عبدالله ، ولم يطلقها على أحد سواه، وإنما قال: (إنه كان عبداً
شكوراً)، (نعم العبد).
ومن خواصه: أنه
ليس في القرآن ولا غيره صلاة من الله
تعالى على غيره فهي خصيصة اختصه الله بها دون سائر الأنبياء. انتهى.
وأسماؤه
توقيفية، كأسماءالله تعالى، جزم به في "الأربعين الطائية". انتهى.
يتبع إن شاء
الله تعالى .....
الفصل الثاني : فيما اختص به صلى الله عليه وآله وسلم في شرعه في أمته في الدنيا