سر إختيار الجزيرة العربية مهداّ لنشأة الإسلام
ولابدّ قبل أن ندخل فى الحديث عن سيرته صلى الله عليه وسلم ’ وعن الجزيرة العربية التى نشأ فيها واختاره الله منها - من أن نستجلى الحكمة الإلهية التى إقتضت أن تكون بعثته عليه الصلاة و السلام فى هذه البقعة من العالم دون غيرها ’ وأن تكون نشأة الدعوة الإسلامية على يد العرب قبل غيرهم .
ولبيان هذا ينبغى أولا أن نعلم خصائص العرب و طباعهم قبل الإسلام ’ وأن نتصور البقعة الجغرافية التى كانوا يعيشون فيها وموقعها مما حولها وأن نتصور فى مقابل ذلك ما كانت عليه الأمم الأخرى إذ ذاك كالفرس و الروم و اليونان والهنود ’ من العادات و الطباع و الخصائص الحضارية .
ولنبدأ أولا بعرض موجز لما كانت عليه الأمم التى تعيش من حول الجزيرة العربية قبيل الإسلام . كان يتصدر العالم إذ ذاك دولتان إثنتان ’ تتقاسمان العالم المتمدن هما : فارس و الروم ’ ويأتى من ورائهما اليونان و الهند . أما فارس فقد كانت حقلا لوساوس دينية فلسفية متصارعة مختلفة . كان فيها الزارادشتية التى إعتنقها ذوو النفوذ و السلطة الحاكمون ’ وكان من فلسفتها تفضيل زواج الرجل بأمه أو إبنته أو أخته ’ حتى أن يزدجرد الثانى الذى حكم فى أواسط القرن الخامس الميلادى تزوج بابنته . هذا الى جانب إنحرافات خلقية مشينة مختلفة لا مجال لسردها هنا .
وكان فيها ( المزدكية ) التى قامت كما يقول الإمام الشهرستانى على فلسفة أخرى هى حل النساء و إباحة الأموال وجعل الناس شركة فيها كاشتراكهم فى الماء و النار و الكلأ ’ وقد حظيت هذه الدعوة باستجابة عظيمة لدى أصحاب الرعونات و الأهواء وصادفت لديهم قبولا عظيما .
أما الرومان ’ فقد كانت تسيطر عليهم الروح الإستعمارية ’ وكانت منهمكة فى خلاف دينى بينها من جهة وبين نصارى الشام ومصر من جهة أخرى ’ وكانت تعتمد على قوتها العسكرية وطموحها الإستعمارى فى مغامرة عجيبة من أجل تطوير المسيحية و التلاعب بها حسبما توحى بها مطامعها و أهواءها المستشرية . ولم تكن هذه الدولة فى الوقت نفسه أقل إنحلالا من دولة فارس ’ فقد كانت تسودها حياة التبذل و الإنحطاط و الظلم الإقتصادى من جراء كثرة الأتاوات ’ ومضاعفة الضرائب .
أما اليونان فقد كانت غارقة فى هوسات من خرافاتها و أساطيرها الكلامية التى منيت بها دون أن ترقى منها الى ثمرة أو نتيجة مفيدة .
وأما الهند فقد كانت كما قال عنها الأستاذ أبو الحسن الندوى : أنه قد إتفقت كلمة المؤلفين فى تاريخها أن أحط أدوارها ديانة وخلقا واجتماعا ذلك العهد الذى يبتدىء من مستهل القرن السادس الميلادى ’ فقد ساهمت الهند مع جاراتها و شقيقاتها فى التدهور الأخلاقى و الإجتماعى .
هذا ’ وينبغى أن نعلم أن القدر المشترك الذى أوقع هذه الأمم المختلفة فيما وقعت فيه من إنحلال واضطراب وشقاء ’ إنما هو الحضارة و المدنية اللتين تقومان على أساس القيم المادية وحدها دون أن يكون ثمّة مثل أعلى يقود هذه الحضارة و المدنية فى سبيلها المستقيم الصحيح . ذلك أن الحضارة بمختلف مقوماتها ومظاهرها ليست سوى وسيلة وسبب ... فإن عدم أهلها التفكير الصائب و المثل العليا الصحيحة إستحالت الحضارة فى أيديهم إلى وسيلة للنزول بها الى درك الشقاء و الإضطراب ’ أما إن أوتى أهلها مقياسا من العقل الرشيد الذى قلما يأتى إلا بواسطة الدين و الوحى الإلهى ’ فإن القيم الحضارية و المدنية كلها تصبح وسائل جميلة سهلة الى السعادة التامة فى مختلف أنواعها ومظاهرها .
* * *
أما الجزيرة العربية فقد كانت هادئة ’ بعيدة بل منعزلة عن مظاهر هذه الإضطرابات كلها ’ فلم يكن لدى أهلها من الترف و المدنية الفارسية ما يجعلهم يتفننون فى خلق وسائل الإنحلال وفلسفة مظاهر الإباحية و الإنحطاط الخلقى ووضعها فى قوالب من الدين ’ ولم تكن لديهم من الطغيان العسكرى الرومانى ما يبسطون به أيديهم بالتسلط على أى رقعة من حولهم ’ ولم يؤتوا من ترف الفلسفة و الجدل اليونانى ما يصبحون به فريسة للأساطير و الخرافات .
كانت طبائعهم أشبه ما تكون بالمادة ( الخام ) التى لم تنصهر بعد فى أى بوتقة محوّلة ’ فكانت تترآى فيها الفطرة الإنسانية السليمة ’ والنزعة القوية الى الإتجاهات الإنسانية الحميدة ’ كالوفاء و النجدة و الكرم والإباء و العفة . إلاّ أنه كانت تعوزهم المعرفة التى تكشف لهم الطريق الى كل ذلك . إذ كانوا يعيشون فى ظلمة من الجهالة البسيطة و الحالة الفطرية الأولى ’ فكان يغلب عليهم - بسبب ذلك - أن يضلوا الطريق الى تلك القيم الإنسانية فيقتلوا الأولاد بدافع الشرف و العفة ’ ويتلفوا الأموال الضرورية بدافع الكرم ’ ويثيروا فيما بينهم الحروب و المعارك بدافع الإباء و النجدة .
وهذه الحالة هى التى عبر عنها الله عز وجل بالضلال حينما وصفها بقوله : ( وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) ’ وهى صفة إذا ما نسبت الى حال الأمم الأخرى إذ ذاك - تدل على الإعتذار لهم أكثر من أن تدل على تسفيههم أو تعييرهم بها .
ذلك أن الأمم الأخرى كانت تستهدى لإنحرافاتها العظيمة بمشاعل الحضارة و الثقافة و المدنية . فكانت تتقلب فى حمأة الفساد عن تبصر وتخطيط وفكر ’ ثم إن الجزيرة العربية تقع بالنسبة لرقعتها الجغرافية فى نقطة الوسط بين هذه الأمم التى تموج من حولها .
و الناظر إليها اليوم يجد - كما يقول الأستاذ محمد المبارك - كيف أنها تقف فى الوسط التام بين حضارتين جانحتين : إحداهما حضارة الغرب المادية التى قدمت عن الإنسان صورة بتراء لا تقع حتى على جانب جزئى من الحقيقة ’ وأخراهما الحضارة الروحية الخيالية فى أقصى الشرق كتلك التى كانت تعيش فى الهند و الصين وما حولهما .
فإذا تصورنا حالة العرب فى الجزيرة العربية قبل الإسلام وحالة الأمم المختلفة الأخرى المحيطة بهم ’ سهل علينا أن نستجلى الحكمة الإلهية التى إقتضت أن تتشرف الجزيرة العربية دون غيرها بمولده و بعثته صلى الله عليه وسلم ’ وأن يكون العرب هم الطليعة الأولى التى تحمل الى العالم مشعل الدعوة الى الدين الإسلامى الذى تعبد الله به الجنس البشرى كله من أقصى العالم الى أقصاه .
وهى ليست كما يظن البعض أن أصحاب التدين الباطل و الحضارات الزائفة يصعب فيهم العلاج و التوجيه لإفتخارهم بما هم عليه من فساد ولرؤيتهم إياه شيئاً صالحا ’ أما الذين لا يزالون يعيشون فى فترة البحث و التنقيب ’ لا ينكرون جهلهم ولا يدّعون ما لم يؤتوه من مدنية وعلم وحضارة ’ فهم أطوع للعلاج و التوجيه - نقول ليست هذه هى الحكمة ’ لأن مثل هذا التحليل يصدق بالنسبة لمن كانت قدرته محدودة وطاقته مخلوقة فهو يفرق بين ما هو سهل و صعب عليه ’ فيفضل الأول ويتهرب من الثانى طمعا فى الراحة وكراهية للنصب . ولو تعلقت إرادة الله تعالى بأن يجعل مشرق الدعوة الإسلامية من جهة ما فى أرض فارس أو الروم أو الهند ’ لهيأ لنجاح الدعوة فيها من الوسائل ما هيأ لها فى الجزيرة العربية ’ وكيف يعز عليه ذلك وهو خالق كل شىء ومبدع كل وسيلة وسبب .
ولكن الحكمة فى هذا الإختيار من نوع الحكمة التى إقتضت أن يكون الرسول أميّا لا يتلوا من كتاب ولا يخطه بيمينه كما قال الله تعالى حتى لا يرتاب الناس فى نبوته عليه الصلاة و السلام وحتى لا تتكاثر لديهم الأسباب للشك فى صدق دعوته .
إذ من تتمة هذه الحكمة الإلهية أن تكون البيئة التى بعث فيها عليه الصلاة و السلام أيضا بيئة أمية بالنسبةللأمم الأخرى التى من حولهم أى لم يتطرق إليها شىء من الحضارات المجاورة لها ’ ولم تتعقد مناهجها الفكرية بشىء من الفلسفات التائهة حولها .
ذلك أنه كما يخشى من دخول الريبة فى صدور الناس إذا ما رأوا النبى متعلما مطّلعا على الكتب القديمة وتاريخ الأمم البائدة و حضارات الدول المجاورة - كذلك يخشى من دخول هذه الريبة فى الصدور إذا ما ظهرت الدعوة الإسلامية بين أمّة لها شأن فى الحضارة و المدنية و الفلسفة وتاريخ ذلك ’ كدولة الفرس أو اليونان أو الرومان ’ إذ ربّ مرتاب مبطل يزعم أنها سلسلة التجارب الحضارية و الأفكار الفلسفية أبدعت أخيرا هذه الحضارة الفذة و التشريع المتكامل .
ولقد أوضح القرآن الكريم هذه الحكمة بصريح العبارات حينما قال : ( هو الذى بعث فى الأميين رسول منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب و الحكمة وإن كانوا من قبله لفى ضلال مبين ) .
فلقد إقتضت إرادة الله تعالى أن يكون رسوله أميّا ’ وأن يكون القوم الذين ظهر فيهم هذا الرسول أميين أيضا فى غالبيتهم العظمى ’ حتى تكون معجزة النبوة و الشريعة الإسلامية واضحة فى الأذهان لا لبس بينها و بين الدعوات البشرية المختلفة ’ وهذا ينطوى - كما هو واضح - علر رحمة عظيمة بالعباد .
وهنالك حكم أخرى لا تخفى على الباحث نجملها فيما يلى :
1- من المعلوم أن الله عز وجل قد جعل البيت الحرام مثابة للناس وامنا ’ وجعله أول بيت وضع للناس للعبادة وإقامة الشعائر الدينية ’ وحقق فى ذلك الوادى دعوة أبى الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة و السلام . ومن لوازم هذا كله و متمماته أن تكون هذه البقعة المباركة نفسها مهدا للدعوة الإسلامية التى هى ملة أبينا إبراهيم وأن تكون بعثة خاتم النبيين ومولده فيها ’ كيف لا وهو نسل إبراهيم عليه الصلاة و السلام .
2- البقعة الجغرافية للجزيرة العربية ترشحها للقيام بعبء مثل هذه الدعوة ’ بسبب أنها تقع - كما قلنا - فى نقطة الوسط بين الأمم المختلفة التى من حولها .
وهذا مما يجعل إشاعات الدعوة الإسلامية تنتشر بين جميع شعوب الدول المحيطة بها فى سهولة ويسر ’ وإذا أعدت النظر الى سير الدعوة الإسلامية فى صدر الإسلام وعصر الخلفاء الراشدين وجدت مصداق ذلك جليا واضحا .
3- إقتضت حكمة الله تعالى أن تكون اللغة العربية هى لغة الدعوة الإسلامية وأن تكون وسيلة المباشرة الأولى لترجمة كلام الله عز وجل وإبلاغه إلينا . ولعلنا لو أمعنا النظر فى خصائص اللغات وقارنا بينها ’ لوجدنا أن اللغة العربية تمتاز بكثير من الخصائص التى يعز وجودها فى اللغات الأخرى ’ فأجدر بها أن تكون لغة المسلمين الأولى فى مختلف ربوعهم و بلادهم .
الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي