وصية سفيان الثوري
قال سليمان بن عيسى: قال سفيان الثوري رحمه الله: أما بعد، عفانا الله وإياك من سخطه، وأعاذنا من النار برحمته، أوصيك بتقوى الله، واحذر عقابه، وأن تجهل بعد إذا علمت فتهلك ولا تهلك بعد إذا وضح لك، وتغتر بأهل الباطل بطلبهم الدنيا وحرصهم عليها وجمعهم إياها؛ فإن القول فيها شديد، والخطر عظيم، والأجل قريب، وكأن قد كان ما تحذر. فتفرغ، وفرغ قلبك، ثم الجد الجد، والوحاء الوحاء، الهرب الهرب؛ فارتحل إلى الآخرة قبل أن يرحل بك، واستقبل رسل ربك بما تحب أن تستقبل به، وانكمش في أمورك، واشدد مئزرك، وقدم جهازك من قبل أن يقضى قضاؤك ويحال بينك وبين ما تريد. فقد وعظتك بما وعظت به نفسي، والتوفيق من الله، ومفتاح التوفيق الدعاء والتضرع والاستكانة والندامة على ما فرطت في أمرك، ولا تضيع حقك من هذه الأيام والليالي. أسأل الله الذي منَّ علينا بمعرفته أن لا يكلنا وإياكم إلى أنفسنا، وأن يتولى منا ومنكم ما تولى من أوليائه وأحبابه برحمته؛ إنه على كل شيء قدير.
وقال رحمة الله عليه: السنة سنتان: سنة أخذها هدى وتركها ضلالة، وسنة أخذها هدى وتركها ليس بضلالة. وإن لله حقاً بالليل لا يقبله بالنهار، وحقاً بالنهار لا يقبله بالليل، وإنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، وإن العبد يحاسب يوم القيامة بالفرائض؛ فإن جاء بها تامة أو لم يفردها كاملة ألحق بها النوافل حتى يكمل بها، وأول الفرائض الانتهاء عن المحارم والمظالم؛ فإن الله تعالى يقول في كتابه: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به)، فنعم والله ما وعظ به.. وقال تعالى: ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) وإنما عنى اتقوا الله في المظالم أن تنالوها فتنفقوها في أعمال البر.
وقال رحمه الله: وأحسن سريرتك يحسن الله علانيتك، وأصلح فيما بينك وبين الله يصلح الله فيما بينك وبين الناس، واعمل لآخرتك يكفك الله أمر دنياك، وبع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً، ولا تخافن إلا ذنبك، ولا تستنكف أن تعمل لآخرتك ما ينفعك، ولا تستحي أن تتعلم العلم، واعمل ما ينفعك في آخرتك، فإن العمل عليك فريضة واجبة، وإنما فضل العلم ليتقى به، وقال: إنما العلم خشية الله تعالى. وسئل رحمه الله: بم عرفت ربك? فقال: بفسخ العزائم، ومنع الهمة. وقال: الصلاة والزكاة من الإيمان، والإيمان يزيد وينقص، والناس عندنا مسئولون، والإيمان يتفاضل.
وقال الوليد بن مسلم: سألت سفيان ومالكاً والأوزاعي عن أحاديث الصفات، فقالوا: نؤمن بها، وتمضي كما جاءت، ولا نفسرها.
وقال: من قال: "القرآن مخلوق" فهو كافر. وقال: من قال: "إن علياًأحق بالإمامة من أبي بكر" فقد أخطأ، ولا أدري أيرفع له عمل إلى السماء أم لا. وقال: الخلفاء وأئمة العدل خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز. وقال: القدرية كفار الجهمية، وقال لشعيب: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، الإيمان قول، ولا يصح قول إلا بعمل، ولا يصح قول وعمل إلا بنية، ولا يصح قول وعمل ونية إلا بإصابة السنة. قلت: وما السنة? قال: تقديم الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم قال: ولا ينفعك ما كتب حتى تقدم عثمان، ولا ينفعك ما كتب حتى تشهد للعشرة بالجنة، ولا ينفعك ما كتب حتى ترى المسح على الخفين، وأنه آثر عندك من غسل الرجلين، ولا ينفعك ما كتب حتى تؤمن بالقدر خيره وشره حلوه ومره، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. ثم قال: ولا ينفعك ما كتب حتى تصلي الصلاة خلف كل بر وفاجر، قلت: في سائر الصلوات? قال: في الجمعة والعيدين، ثم قال: وأن تشهد بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. من قال غير هذا فهو كافر. والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ثم قال شعيب بن حرب: والله ما قالت القدرية ما قال الله تعالى، ولا ما قالت الملائكة، ولا ما قال الأنبياء ولا ما قال أهل النار، ولا ما قال أهل الجنة، ولا ما قال أخوهم إبليس، قال الله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) الآية. وقالت الملائكة: (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا).
وقال عيسى عليه السلام: (إن هي إلا فتنتك)، وقال أهل الجنة: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)، وقال أهل النار: (غلبت علينا شقوتنا) وقال إبليس: (بما أغويتني) الآية، ثم قال: ولا تصل إلا خلف من تثق به، وتعلم أنه من أهل السنة والجماعة إلا الجمعة والعيدين، ثم إذا وقفت بين يدي الله تعالى فقل: حدثني بهذا سفيان بن سعد ثم خل بيني وبين ربي.