بسم الله الرحمن الرحيم
الناس في هذه الحياة على صنفين : إما سادة أحرار قد ملكوا زمام أمورهم وتحرروا من عبوديتهم لغير الله تعالى , وإما عبيد قد أرهقهم الرق وباعدتهم سبل العتق فصاروا عبيداً للأموال والشهوات , وأُسارى للفتن والشبهات , فلم تكن عبوديتهم لله خالصة , بل أشركوا معه غيره في العبادة والولاء .قال تعالى : " وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) سورة المائدة .
فأما الصنف الأول : فهم السادة الأحرار الذين توجهوا بالعبودية والتوحيد لله تعالى دون سواه , ولم تعرف قلوبهم ربا ولا خالقا ولا رازقا غيره .
فهم أحرار لأنهم قد تحرروا من عبادة الطواغيت والهوى والذات , فلا طاغوت عندهم يعبد , قال تعالى : " وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) سورة الزمر , ولا هوى لديهم يطاع , قال تعالى : " وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) سورة النازعات .
فهؤلاء هم الذين نشأوا في العبادة وتربوا على العز والسيادة , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ الإِمَامُ الْعَادِلُ ، وَشَابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ رَبِّهِ ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في الْمَسَاجِدِ ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا في اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ . وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ.
وهم الذين ملأوا صدورهم باليقين لما في أيدي الله تعالى , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :إِنَّ اللّهَ تَعَالَى يَقُولُ : يَا ابْنَ آدم تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أمْلأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأسُدَّ فَقْرَكَ ، وَإِلاَ تَفْعَلْ مَلأْتُ يَدَيْكَ شُغْلاً وَلَمْ أسُدَّ فَقْرَكَ.
نظر أبو محمد سهل بن عبد الله التستري إلى رجل من الفقراء فقال له : اعمل كذا وكذا فقال : يا أستاذ لا أقدر على هذا لأجل الناس ، فالتفت إلى أصحابه فقال : لا ينال العبد حقيقة من هذا الأمر حتى يكون بأحد وصفين : عبد يسقط الناس عن عينه فلا يرى في الدار إلاّ هو وخالقه ، وأنّ أحد لا يقدر أنْ يضره ولا ينفعه ، أو عبد أسقط الناس عن قلبه فلا يبالي بأي حال يرونه .
حينما سُجن الإمام البويطي صاحب الشافعي ووُضع الغُلّ في عنقه، والقيد في رجليه، وكان يقول: لأموتن في حديدي هذا، حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديده ,وكان البويطي وهو في الحبس يغتسل كل جمعة، ويتطيب، ويغسل ثيابه، ثم يخرج إلى باب السجن إذا سمع النداء، فيردّه السجان، فيقول البويطي: اللهم! إني أجبت داعيك فمنعوني.
مرّ عبيد الله بن معمر بحبشي يأكل تمراً وبين يديه كلب، فلما وضع في فمه لقمةً رمى إلى الكلب بلقمة وتمرة. فقال له عبيد الله: هذا الكلب لك؟ قال: لا. قال: فكيف صرت تطعمه وأنت تأكل؟ قال: إني لأستحيي ذا عينين أن ينظر إلي وأنا آكل فلا أطعمه. قال له عبيد الله: أأنت حرّ أم عبد؟ قال: عبد لبني غاضرة. فأتاهم فقال: لمن الحبشي؟ قال صاحبه: لي. فقال: بعه مني. قال: هو لك. قال: لا والله إلا أن تأخذ ثمنه أو غلاماً يكون محله. فاشتراه ثم قال: أشهدكم أنه حرّ لوجه الله جل وعز.
كما أنهم استأجروا أنفسهم فكانوا أجراء عند الله وليس عند أحد من البشر , روى ابن الجوزي فقال : قال وهب بن منبه :لبث رجل عابد سبعة أيام لم يرزق شيئا، فقالت امرأته:-لو خرجت فطلبت لنا شيئا؟فخرج العابد فوقف مع العمال،فاستؤجر العمال، وصرف الله عن العابد الرزق، ولم يستأجره أحد فقال:- والله لأعملن اليوم مع ربي.فجاء إلى ساحل البحر فاغتسل،ولم يزل راكعا وساجدا حتى أمسى . وأتى أهله فقالت امرأته:- ما صنعت اليوم ؟قال العابد:-عملت مع أستاذي، وقد وعدني أن يعطيني.ثم غدا إلى السوق فوقف العمال فاستؤجر،وصرف الله عنه الرزق،ولم يستأجره أحد فقال-لأعملن اليوم مع ربي.فجاء إلى ساحل البحر فاغتسل،ولم يزل راكعا ساجدا حتى إذا أمسى أقبل على أهله فقالت امرأته :- ما صنعت؟قال العابد:- إن أستاذي قد وعدني أن يجمع لي أجرتي.فخاصمته امرأته وبرزت عليه، ولبث يتقلب ظهر البطن، وبطنا لظهر،وصبيانه يتضاغون جوعا، ثم غدا إلى السوق، فاستؤجر العمال وصرف الله عنه الرزق ولم يستأجره أحد فقال :- والله لأعملن اليوم مع ربي:فجاء إلى ساحل البحر فاغتسل ، ولم يزل راكعا ساجدا حتى إذا أمسى قال :-أين أمضي ؟ و أنا قد تركت العيال يتضاغون جوعا ثم تحامل على جهد منه، حتى إذا قرب من باب داره سمع ضحكا وسرورا،وشم رائحة قديد وشواء، فأخذ على بصره وقال : - أنا نائم أم يقظان ؟ تركت أقواما يتضاغون جوعا، وأشم رائحة قديد وشواء،وأسمع ضحكا وسرورا؟ ثم دنا من باب داره فطرق الباب ، فخرجت امرأة حاسرة ، قد حسرت عن ذراعيها وهي تضحك في وجهه، ثم قالت :-قد جاءنا رسول أستاذك فأتانا بدنانير وكسوة و ودق - الدهن - ودقيق ، وقال: إذا جاء فلان فأقرئه السلام وقولي له :إن أستاذك يقول لك: قد رأيت عملك و قد رضيته ، فإن زدتني في العمل زدتك في الأجر.
قال الشاعر :
ذنوبي وإن فكرت فيها عظيمة * * * ورحمة ربي من ذنوبي أوسعُ
وما طمعي في صالح قد عملته * * * ولكنني في رحمة الله أطمعُ
والصنف الثاني : العبيد ؛ الذين كانت عبوديتهم لغير الله تعالى , ولم يدركوا أن الذل في ساحته عزا , وأن العبودية في طاعته تحرراً وفخرا .
فهم إذا عبدوا الله عبدوه على حرف , وروى عطية عن أبي سعيد الخدري قال: أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده وتشاءم بالإسلام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقلني، فقال: إن الإسلام لا يقال، فقال: إني لم أصب في ديني هذا خيرا، أذهب بصري ومالي وولدي، فقال: يا يهودي إن الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والفضة والذهب، قال: ونزلت " ومن الناس من يعبد الله على حرف ".
قال الشاعر :
تعصي الإله وأنت تظهر حبَّه * * * هذا محالٌ في القياس بديعُ
لو كان حبُّك صادقاً لأطعته * * * إن المحبَّ لمن يحبُّ مطيعُ
وهم يفضلون المال ويتوجهون إليه بالولاء والخضوع , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ ، إِنْ أُعْطِىَ رَضِىَ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِى سَبِيلِ اللهِ ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ ، إِنْ كَانَ فِى الْحِرَاسَةِ كَانَ فِى الْحِرَاسَةِ ، وَإِنْ كَانَ في السَّاقَةِ كَانَ في السَّاقَةِ ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ .
كان بشر بن الحارث شاباً صاحب لهو ولعب ومعصية، وكان ذات يوم مع رفقاء له يشاركونه المجون في داره، وصوت لهوهم وطربهم يخرج من نوافذ الدار فمر على الدار موسى بن جعفر فدق الباب فخرجت إليه جارية فقال لها: صاحب هذه الدار حر أم عبد؟ فقالت: بل حر، قال لها الرجل الصالح صدقت: صدقت! لو كان عبداً لاستعمل الأدب مع سيده وترك اللهو والطرب، فسمع بشر بن الحارث صوت الرجل الصالح فاتجه نحو الباب يسأل: من المتحدث؟ فإذا الرجل قد ولى، فسأل الجارية، فأخبرته بما جرى، فألقى الله في قلب بشر وجلاً من تلك الكلمة فخرج يتبع الرجل الصالح حتى إذا لحقه قال له: أعد عليَّ الكلام، فأعاده الرجل الصالح، فقال بشر: كلا والله بل عبدٌ عبد، ثم هام على وجهه حافياً نادماً على ما كان منه حتى عُرف ببشر الحافي.
فالآن – أيها السيد الكريم – سل نفسك : هل أنا حر أم عبد ؟ . فإذا كنت حراً فهل كانت حريتك مستمدة من عبوديتك لله تعالى وحسن إخلاصك له ؟ .
وإذا كنت عبداً فلمن عبوديتك الحقة , هل هي لله أم لغيره .
اللهم انقلنا من ذل المعصية والعصيان إلى عز الطاعة والإيمان , واغفر لنا الذنوب والأدران , يا رحيم يا رحمان .