السلام عليكم
أمس ألبسني سيدي محب السيد الرواس حلة بهيه، لكنها أكبر مني، فأنا لازلت أحبو في مداركها ،فأحببت أن أعظ نفسي والله المستعان:
أيأسن الماء إذا الماء ركد ?
تلاشت صورته .. لم أعد أرى إلا طيفه .. أرى خياله .. أسمع همسه .. أتخيل ابتساماته .. أحلم به .. ذهب وتركني .. لم أتوقع أن يتركني يوما ما لوحدي .. ماض جميل وحاضر مؤلم .. تدحرجت دمعة تلتها أختها .. مسحت دمعتي .. سندت ظهري .. اتكأت على عصاي .. جمعت قواي .. التفت فيمن حولي فسألتهم: ما فائدة الماء.
انهالت علي الإجابات واحدة تلو الأخرى، فمجيب عن فوائده الصحية، وآخر عن مكوناته العلمية، وثالث .. ورابع .. التفت إلي فتى لبيب فقال لي: اسمع أيها الجد قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}
استوقفتني عبارته واستشهاده بالآية، علمت أن لهذا الشخص طريقة تفكير تفوق طرائق تفكير إخوانه وقرنائه، لاح لي في عينيه فهم الفهيم، وحكمة الحكيم، وكلام البليغ.
أطرقت مليا ثم قلت لجلسائي: أيأسن الماء؟
ازداد اللغط في المجلس، وارتفعت الأصوات: لماذا تسأل مثل هذه الأسئلة؟
قلت لهم: أجيبوني..
قال أحدهم: إذا خالطته النجاسة..
وقال الآخر: إّذا أضفت إليه ما ليس منه.
وقال ثالث: إذا حجب عن أشعة الشمس..
وقال رابع: إذا قل..
ثم التفت إلي ذلك الفتى اللبيب فقال: أما والله ما قالوا إلا حقا، ولكنني أعلم ما تريد!!!
أتريد أن تقول لنا: (يأسن الماء إذا الماء ركد)?!
ازددت إعجابا بهذا الفتى، فقد فتح الله عليه باب الفهم وفقه الكلمة. نظرت إليه فقلت: إني سائلك فأجبني.
فقال: هات ..
قلت: يأسن الماء إذا ركد ما الذي تفهمه منها؟
تبسم تبسم الواثق وقال لي: لقد لاح في خاطري ما تريد الوصول إليه. الماء سر الحياة، وسر بقائها وبقاء البشرية جمعاء، فمنه نشرب وبه نتطهر وبه تزرع وعليه نأكل و.. ولكن مرادك لم يكن إلا قول الله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ}
وقوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}
ولم يكن ما تريد هو ظاهر الآية، بل تريد شيئا بعينه .. فإليك ذلك:
تسقط أشعة الشمس الحارة على المسطحات المائية فيتبخر الماء منها، فيصعد إلى السماء فيجتمع ويتكثف فيكون سحابا، فيسوقه الله إلى أي أرض شاء فتهتز وتربو فيحييها الله بعد موتها..
كذلك الداعية إلى الله عز وجل، فهو سر الحياة كالماء إن سار وتدفق وانفجر عيونا وينابيعا بارك الله فيه فحيا وأحيا مواتا، وإن ركد واتكل وخمل وكسل أسن وتعفن..
وأما أشعة الشمس فإنها حرارة الإيمان، وقوة الطاعة، وذاتية المؤمن، فتبعث فيه القوة والنشاط، فيتبخر على الجوارح فيظهر واضحا جليا في حركاته وسكناته، فهو ينتقل من ميدان إلى آخر، ومن مسجد لآخر، ومن حي إلى آخر، ومن نشاط دعوي أيا كان إلى آخر، وما ساقه إلا الله عز وجل ولو شاء لأركده..
ثم تترجم تلك الحرارة، وذلك النشاط إلى كلمات وعبارات فيها الصدق والإخلاص والتقوى وأنشطة دعوية. فأمطرت على القلوب فما كان ميتا أحياه الله وما كان مجدبا أغاثه الله، فاهتزت تلك القلوب وجلا وخوفا من الله وطمعا في رحمته ثم تشبعت بكلام الله وسنة رسوله الكريم، فنبتت فيها غراس التقوى وزروع الإخلاص وأزهار الطاعة..
قاطعته فقلت: يا بني وكيف يأسن الماء إذا؟
تبسم ابتسامة عريضة وقال لي:
نظرت للعلياء والعليـاء قــــــــد --- يدركهـا المرء إذا المرء جـد
وقلت في نفسي لنفسي أيا ترى --- أيأسن المـاء إذا المـاء ركـد
فنادى المنادي للمنـادي وقــــــد --- علمت الجواب إذا الجواب فُقد
فكم من جاهل غُر بجهل وصــد --- عـن العليـــا وللعليــــــا فقــــد
وقلت لنفسي فــي نفســي وقــد --- يأسـن المـاء إذا الماء ركــد
يا جد: إذا ركد الداعية وخمل وكسل وركن، أسن.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير"
وقوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ }
أي أنهم في عبادة دائمة ينزهون الله عما لا يليق به، ويصلون، ويذكرون الله ليلا ونهارا لا يضعفون ولا يسامون ولا يفترون
يا جد: إذا استغنى الداعية عن إخوانه ليجابه تيارات عارمة، أسن. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "... عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو مع الإثنين، أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة"
وكما قيل: (المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه).
ويقول ابن المبارك رحمه الله:
لولا الجماعة ماكانت لنا سبلا = ولكان أضعفنا نهبا لأقوانا
يا جد: إذا خلط الداعية عملا صالحا بآخر سيء، أسن.
قال تعالى: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليكم إن الله غفور رحيم)
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وأن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال بيده هكذا" فحرك يده عن أنفه
يقول الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهم يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه"
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن إذا أذنب ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء، فإذا تاب نزع واستغفر صقل قلبه وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله تعالى في كتابه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
يا جد: إذا غلبت الداعية شهوة أو شبهة، أسن.
قال صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن"
وحديث "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس"
يا جد: إذا دخل على الداعية ما ليس منه كالدنيا، أسن. قال الله تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة)
ويقول الله تعالى: (يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور)
وكما قال صلى الله عليه وسلم: "فأبشروا، وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم"
إن لله عبـادا فطنــا = طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا = أنها ليسـت لحي وطنـا
جعلوها لجـة واتخذوا = صالح الأعمـال منها سفنا
هكذا يجب أن يكون الداعي الى الله ولنافي حبيب الخلق ومهجة الروح أسوة حسنه فقد كان داعياالى الله باذنه وسراجا منيرا.
اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك، اللهم ابعث في قلوبنا أنوار الاقبال عليك،
اللهم آت نفوسنا تقواها زكها انت خير من زكاها انت وليها ومولاها، لا تحرمنا ونحن ندعوك ولا تردنا ونحن نسألك ونرجوك، إلهنا وسيدنا ما اطلقت اللسان العاصية في طلب همة الاقبال عليك إلا وقد سبقت سابقة السعادة منك، اللهم فأقبل بقلوبنا عليك وانهض هممنا في حسن معاملتك واجعلنا من المحبوبين الراشدين يا أكرم الأكرمين،