الحمد لله الذي يلهم نفس الإنسان فجورها وتقواها، سبحانه عز وجل خلق النفس لتكون محلا لخطابه، فترتقي بهذا الخطاب (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)، اللهم صلِّ وسلم على إمام أهل النفوس الكاملة المطمئنة الراضية المرضية سيدنا محمد، اللهم صلِّ وسلم على إمام أهل تزكية الأنفس سيدنا محمد،
مراتب النفس1. النفس الأمارة :صفة الأمر بالسوء، على لسان امرأة العزيز وقال بعض أهل التفسير على لسان سيدنا يوسف عليه السلام (
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أنّ كلمة أمارة صيغة مبالغة بمعنى أن النفس تأمر وتأمر وتأمر تستمر بكثرة تأمر بالسوء هذه في البداية هكذا النفوس، أما أوّل ما خلقها الله منذ الولادة كانت لا تطلب إلاّ الخير “
كلُّ مولودٍ يولدُ على الفطرةِ” لكن لما تلوّثت فطرة النفس بالشهوة بالطعام بالشراب بالصّلة بالعراك بالعلاقات بالناس أصبحت معجونة بالأمر بالسوء، لأن صفة الأنانية تبحث دائماً عن شهوتها عن حظّها عن رغبتها عن الإنتصار لذاتها فلهذا تأمر صاحبها بالسوء..
هل أنت مقتنع أن نفسك تأمر بالسوء؟ يالله نبتدأ من الآن، هذه خطوة عملية، هل ضبطتها مرة من المرات أمرتك بالسوء؟ أحياناً، طيب أحياناً ضبطتها وهي تأمر بالسوء وأحياناً؟ كيف فاتك الضبط هذا؟ تعرف لماذا؟ لأن سُنـّة قرآنية قد أمتناها نحتاج أن نحييها، أيّها السائر إلى الله اشرع ابدأ في إحياء هذه السُنـّة القرآنية، ما هي السُنـّة القرآنية؟ سُنـّة نقد الذات نبدأ نروّض أنفسنا على أن يكون من السهل علينا أن ننتقد أنفسنا، كسرت شيء في البيت، آسف أنا كسرت، غلطت بالعمل، أنا أخطأت في هذا الأمر، لا تبحث عن من تـُلقي عليه خطأك، لا أصل فلان ما بلّغني الطلبية، متأخر، لا أصل فلان عمل كذا..، لا لا أنت أخطأت؟ أنا أخطأت وانتهى الأمر، وأتحمل مسؤولية خطئي لا أتوقع أن يُعفى عني من قبل الناس، لكن أكون شجاعاً أنا أخطأت، أبدأ أروّض نفسي..
ما الفرق بين نقد الذات وجلد الذات؟ جلد الذات أن ينتقد الإنسان نفسه بغير طريقة لارتقائها، هذا يورثها الإحباط، لكن نقد الذات أن تعترف بالخطأ وتبدأ خطوة لتصويب وتصحيح الخطأ، تبدأ تفكر لماذا نفسي أمرتني بهذا الأمر السيئ؟ لماذا أخطأت في هذه المسألة؟ كيف أغلِـق هذا الباب السيئ على نفسي؟ بأمرين: تقليل العلف، وتكثير العمل، قلِل مشتهياتها وتناول المشتهيات، ما كل شيء تأمرك تقول حاضر حاضر، ولو في المباحات، أعطها من المباحات ما تنشط به إلى الطاعة، لكن لا تكن عبدها كل ما اشتهت شيء تقول حاضر، لا، قلِل العـَلف وكثـّر العمل؛ ألزمها العمل، قومي صلي هذه الليلة صلاة الوتر أحد عشرة ركعة ما قدرت ثلاث ركعات المهم صلّي الوتر، كلفها اقرأي اليوم جزءاً من كلام الله عزوجل، أوه مستثقلة.. اقرئيه، لا تعوّد نفسك أن تعمل فقط عندما تتمتع بالعمل، أن تشترط عليك نفسك حتى تستجيب أن تكون هي راغبة ومتمتعة، ستتحول إلى عبد لنفسك وستستمر النفس تأمر بالسوء تأمر بالسوء وأنت تستجيب انظر إلى المنظر حرام نظرت، قل الكلمة البذيئة قلت، خذ هذا الأمر الذي ليس لك أخذت تعوّدت أن تطيع، لماذا؟ لأنك عوّدتها من قبل أن تطيعها في كل شيء، لكن لو عودتها أن لا تطيعها في كل شيء، ما يصلح تطيعها فيه وما لا يصلح لا تطيعها، وعوّدتها أيضاً أن تلزمها أن تعمل وهي مستثقلة، دخل عليك شهر رمضان في أول يوم كان عندك حماسة ونشاط صلّيت التراويح إلى العشرين ركعة وثلاث ركعات، وبدأت تقرأ كلام الله، يومين ثلاثة بدأت تمل، تبحث عن إمام سريع أو بدأت تمل فصليت بعض الركعات وانصرفت، لا!!، صلي وأنت مالّ، البعض يأتي الشيطان أو تأتي النفس تضحك عليه، تقول لا، لازم تصلي وأنت متلذّذ راغب، أنت كيف تقابل الله وأنت غير..؟ لا قابل الله يحبك الله عزوجل ويثيبك ويرقيك إذا رآك تـُجهد نفسك من أجله، وهي مستثقلة وغير راغبة صلِّ أتمِّ،رُوِّض، نفسك هكذا، أثقِل عليها بشيء من الطاعات -بتدرج بملاحظة- عملت طاعة أثبها، الحصان إذا قبل بعض الترويضات كالقفز على الحواجز يعطيه صاحبه سكـّر صحيح؟ يقول له خذ يعطيه لوز يعطيه حلوى، أن تتعود أن تعطيها المشتهيات الحلال بعد عمل طاعة، هي تتروض بهذا الأمر، فإذا بدأت النفس تتروض بالاستمرار بالذكر والفكر والتدبر الذي كان الكلام عنها في المجالس الماضية، وبدأت تروّضها شيء فشيء، بدأت النفس هي تذوق لذة المعاملة- شيء بسيط- بدأت هي تتقبل، فتتحول من النفس الأمارة إلى رتبة أخرى،..
2. النفس اللوامة :يقول الله عزوجل: (
وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) أي أقسم، سماها اللوامة، لماذا لوّامة؟ كانت أمارة؛ دائماً تأمر بالسوء بالسوء، الآن صارت تأمر أحياناً بالسوء ثم تلوم صاحبها على السوء؛ أنا لماذا عملت كذا؟ أنا لماذا البارحة نمت دون أن أصلي الوتر؟ أنا لماذا أطلقت لساني بالكلام؟ أنا إيش يلي يخليني أمشي مع أصحابي السيئين في الموضوع الفلاني؟ لماذا قبلت الإغراء بالصفقة الفلانية؟ تبدأ تلوم، في البداية هي قالت لك اعمل هي أعجبها الأمر، لكن ثم تنبهت واستيقظت وبدأت تلوم، فلها وجه إلى النفس الأمارة ولها وجه إلى النفس الراغبة في الخير المطمئنة، هذه النفس اللوامة إذا استمريت معها بنفس العلاج الذي عالجت به النفس الأمارة، مع زيادة شيء هو التذكير بالمعاني، النفس الأمارة تحتاج إلى السَوق بالجلد بالشغل اشتغلِ قللِ العلف -مجاهدة- فإذا أصبحت لوامة ساعة تلوم على الشر وتـُرَغـّب بالخير، وساعة تأمر بالشر، في هذه الحالة أنت تحتاج إلى الاستمرار معها في السوق بالإثقال عليها، اعملي وأنتِ غير راغبة واتركِ وأنت راغبة -المجاهدة لها- لكن أيضاً ابدأ خاطبها بالمعاني، أنوار الترغيب أنوار الترهيب التشويق إلى الله سبحانه وتعالى، أسمعها صوت قارئ للقرآن بصوت عذب، أسمعها صوت منشد يحرك فيها همة، رغبها اجعلها تخرج مع بعض الصالحين، قل لها: ما رأيك ننال رتبة كذا وعطاء كذا، خذها إلى ميدان التدبر في كتاب الله، تبدأ ترتقي تتنوّر، فإذا تنورت ارتقت إلى الرتبة الثالثة ..
3. النفس الملهمة :قال الله عن هذه النفس (
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) فإذا بدأت النفس تشعر بمعنى الاستلهام، ما معنى تشعر بمعنى الإستلهام؟ تبدأ تستوعب ما يجري، تبدأ تميز بين الخاطر الرباني، لمّة الملك، وسوسة الشيطان، وهواها وحظها كنفس، بين الاستدراج، بين المثوبة والعقوبة، بدأت تستلهم الاستبيان والاستبصار، فإذا وصلت إلى هذه المرتبة استمر في مجاهدتها وفيما كان أيام النفس الأمارة، واستمر في تنفيسها بالنظر في المعاني، وزد على ذلك إغراقها في الذكر، الاستغراق في الفكر والاستمرار في الذكر مع الفكر يجعل النفس الملهمة يقوى فيها جانب النور على جانب الظـُلمة تبدأ هذه النفس ترتاح لثمرة الخير.
أحد الصحابة جاء من بلاده وأتعب الراحلة وتعب وخاف أن المصطفى يتوفى صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يعرف الجواب منه، قال: “يا رسول الله! أسألك عن علامة الله فيمن يريد وعلامته فيمن لا يريد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
كيف أصبحت؟ -تريد تعرف حالك مع الله انظر كيف أصبحت- قال: أصبحت أحب الخير وأهله ومن يعمل به، وإن عملت به أيقنت بثوابه، فإن فاتني منه شيء حننت إليه، قال:
هذه علامة الله فيمن يريد وعلامته فيمن لا يريد؛ ولو أرادك بالأخرى هيأك لها ثم لم يبال في أي واد هلكت“.
ما هي العلامات؟ أحب أفرح أحزن،. حُب فرح حٌزن، هذا ماذا نسميه أحوال معاني في باطن الإنسان، فعندما تمون النفس الملهمة يرتقي بها صاحب يجعلها تعيش هذه المعاني، أحب الخير وفعل الخير أفرح بتوفيق الله لي بفعل الخير أحزن إذا فاتني شيء من فعل الخير، الإغراق في الذكر يجعل هذه النفس الملهمة تبدأ ترسخ، ما معنى ترسخ؟ تبدأ تستقر على الطاعة تستلهم أنوار الطاعة فتستقر تـُعرض عن المعاصي، تـُعرض عليها المعاصي فتأباها وتستقر استقرار.. استقرار استقرار.. ماذا يحصل لهذه النفس؟
4. النفس المطمئنة :(
الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) إذا بدأت النفس تطمئن تتهيأ لأن يخاطبها الله، نحن يخاطبنا الله في كل يوم في كل ليلة في آية من الذكر تقرأها الله يخاطبك في كل صلاة تصليها تتذكرون؟ (ا
لْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) حمدني عبدي، أثنى علي عبدي، مجدني عبدي، الله يخاطبنا لكن إذا اطمئنت النفس بدأت تتذوق في باطنها أثر خطاب الله عزوجل عليها، قال الله عزوجل في معرض هذا البيان (
يَا أَيَّتُهَا) العرب يأيهون إذا أرادوا أن يكرموا، ما قال يانفس مطمئنة، (
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً)، فإذا اطمئنت النفس جاءها خطاب من الله بالرجوع إليه في حال النفس المطمئنة يعتني صاحب النفس المطمئنة بالرضى عن كل ما يأتي من الله يعتني بمعنى الرجوع إلى الله، جاءت نعمة، من الله، جاء بلاء، من الله رضيت رضيت..
5. النفس الراضية :ذِكرُك “
رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً صلى الله عليه وآله وسلم” بدأت النفس ترضى فترتقي إلى النفس الراضية، (
ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً) وإذا عاشت النفس المطمئنة في بحبوحة الرضى؛ صارت راضية، جاءها الرضى من الله..
6. النفس المرضية :ثم إذا جاءها الرضى من الله صارت مرضية لدى الله، ارتضاها الله للكمال للقرب منه فصارت نفساً (
مَّرْضِيَّةً)، (ا
رْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً) .
7. النفس الكاملة :ثم تتهيّأ للارتقاء إلى (الكمال)، والكمال هنا هو الكمال المقيد أما الكمال المطلق فللّه وحده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “
كمُل من الرجال كثير وكمُل من النساء فاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وآسيا بنت مزاحم” صلى الله عليه وآله وسلم ..
رزقنا الله وإياكم كمال الارتقاء في هذه المراتب، يا رب، لا تجعل حظنا من ذلك مجرد لقلقة اللسان، ولا مجرد استماع الآذان، اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليُّها ومولاها، لا تحرمنا ونحن ندعوك ولا تردنا ونحن نسألك ونرجوك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.