محب السيد الرواس الإدارة
الجنس : عدد المساهمات : 1055 نقاط : 1693 تاريخ الميلاد : 09/01/1987 تاريخ التسجيل : 07/09/2010
| موضوع: شرح قصيدة ما لذّة العيش إلاّ صحبة الفقراء الثلاثاء ديسمبر 21, 2010 3:42 pm | |
| بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيّدنا محمّد وآله وصحبه أجمعين
أمّا بعد :
فإنّ أشعار وقصائد أهل الله تعالى من كمّل العارفين بالله تعالى كلّها أذواق ومواجيد تحتوي خمرة توحيدية وأحوالا نبويّة , فهي تترجم أحوال ناظميها وصفاء قلوبهم ومحبّتهم لربّهم ولرسوله عليه الصلاة والسلام , وإنّ من أجمل القصائد التي عنيت بتفسير آداب الطريقة , ودلّت على عناوين وعلامات أهل الحقيقة , قصيدة ( ما لذّة العيش إلاّ صحبة الفقراء ) لناظمها الشيخ الكبير العارف الجليل سيدي أبي مدين الغوث دفين تلمسان رضي الله عنه فأحببت أن أضع عليها تقييدا وجيزا تبرّكا بكلام هذا القطب الكبير والنحرير الشهير فهذه القصيدة من أرقّ وأشفّ مواجيد أبي مدين رضي الله عنه
فأقول وعلى الله تعالى التيسير والقبول :
يقول الناظم رضي الله عنه :
( ما لذة العيش إلا صحبة الفقراء..... هم السلاطين والسادات والأمرا )
لا يمكن أن يعبّر عن الأحوال إلاّ مكابدها , ولا المحاب إلاّ ذائقها , ولا المحاسن وبدائع سحر الجمال إلاّ مشاهدها , ولا عن الحقيقة إلاّ عارفها وواصفها , ذكر هنا للباحث عن حقيقة اللذّة والنعيم في الدنيا أنّه لا يجده إلا بصحبته لأهل الله تعالى , فلا نعيم في الدنيا يعادل نعيم صحبتهم إذ أنّ مجالسهم كما ورد في الحديث رياض جنان وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم تغشاهم الرحمات وتنزل عليهم السكينة وتحفّهم الملائكة فهي مشاهد ومذاقات جنانية نعيمية , فهم النعيم السابق للنعيم اللاحق فلا تحلو الجنان إلاّ بحضورهم وتحت نظرات سرورهم ( غدا ألقى الأحبّة محمّدا وصحبه ) فلا لذّة تعادل لذّة صحبتهم ( الصحبة يا رسول الله ) لأنّه الجنّة صلى الله عليه وسلّم وكذلك بالتبعية له أهل الله جميعهم عليهم السلام
فكان الناظم رضي الله عنه من الذائقين الكمّل لهذه الحقيقة وهي حقيقة لذّة العيش بصحبته لإخوانه الفقراء من أهل الله تعالى ( فألّف بين قلوبهم ) فحكى حاله الذي وجده في قلبه تجاههم لذا وصفهم بأنّهم السلاطين والسادات والأمراء فهم سادات الكون وملوك الآخرة فحكى حاله ومحابه فيهم فرآهم بفؤاد الكمال وببصيرة الجمال بعد أن خفق قلبه بمحبّتهم وإنتعش وجدانه بمودّتهم فغاب في بديع جمالهم وترجم محاسن خصالهم , فكأنّه بعد أن صحبهم تذكّر ما كانت عليه حالته الأولى قبل زمان صحبته إيّاهم فاستشعر الفارق الكبير بين تلك الحالتين لما وجده من النعيم وفي صحبتهم من الخير العميم , فذكر وصفهم الظاهري حتى يعرف هؤلاء القوم وأنّ حالتهم الظاهرة الفقر فهم فقراء إلى ربّهم من حيث أنّ ربّهم الغنيّ الحميد وهم سادات مكرمون من حيث أنّ ربّهم الكريم الرحيم , أدخلهم في حصن حفظه , وجنّة كرمه , وأحياهم بشراب محبّته
قال الناظم رضي الله عنه :
( فاصحبهم وتأدب في مجالسهم ..... وخلّ حظك مهما قدموك ورا )
الفقير متى نظر إلى إخوانه بنظر المحبّة والتعظيم , ولاحظهم بعين التوقير والتكريم , فإنّه لا محالة يراهم في مرتبة السلاطين والأمراء والسادات الشرفاء , فيستشرف إلى فخامة صحبتهم , ويتطلّع إلى شرف خدمتهم , لأنّ حقيقة الصحبة هي الخدمة وما أفلح من أفلح إلاّ بصحبة من أفلح أي ما أفلح من أفلح إلاّ بخدمة من أفلح , فإنّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم هم خدّام الحضرة النبوية الشريفة فهم خدّامه صلى الله عليه وسلّم , وهذه الخدمة لحضرة أهل الله مع ما فيها من الشرف والقرب والقبول , وما فيها من البشائر بالوصال , وكمال النوال , إلاّ أنّ طريقها مسدود , وبابها موصود , إذا لم يصاحب تلك الخدمة ويرافق تلك الصحبة شروط آدابها , ومفاتيح أبوابها , فكانت الصحبة قرينة الأدب والأخلاق , والخدمة صنو الترفّق والأشواق , فليست إلاّ خدمة بحبّ , وصحبة بودّ , وهذا أكبر باب لفهم ما يجب لتلك الصحبة من الآداب الجميلة , وأخلاق الفضيلة , وقد قيل : التصوّف كلّه آداب فمن زاد عليك في الأدب زاد عليك في التصوّف , وفي الأثر والخبر ( لقد أدّبني ربّي فأحسن تأديبي ) لذا قال الناظم معدّدا ذكر تلك الآداب , وذاكرا شروط حقائق الإنتساب : ( وخلّ حظّك مهما قدّموك ورا ) فذكر أوّل شرط من شروط آداب الصحبة وهو ترك الحظوظ في طلب أجرة الخدمة , وذلك بترك حظوظ النفس في صحبتهم وراء مهما قدّموك , لأنّ من تقدّم بحظّ فما وفّى حقوق الصحبة , ولا إعتنى بموجبات الخدمة , لما في سجيّة الإخوان , ومعادن الخلاّن , من شهود الكمال في غيرهم , وشهود النقص في أنفسهم , فحذّر هنا من الإخلال بآدابهم , والتسوّر على محرابهم , فلا تتقدّم عليهم مهما قدّموك , فإنّهم ما قدّموك إلاّ لحسن ظنّهم فيك , وتعظيم لك منهم , لشهودهم التقصير في أنفسهم , والكمال في غيرهم , فلولا مكانتهم السامية , وآدابهم الكاملة ما قدّموك , لأنّهم أهل الخدمة وعلى ذلك درجوا , وقد كان صلى الله عليه وسلّم يخدم أصحابه بنفسه ويسهر على راحتهم ويدعو لهم ويتفقّد فقيرهم ويعود مريضهم ويواسي محزونهم
فلا تنظر إلى القوم إلاّ أنّك أدناهم وأفقرهم ,وأجهلهم وأعصاهم , فلا ترى لنفسك عليهم حقّا , ولا لخدمتك لهم فضلا , بل احمد الله أنّهم قبلوك لخدمتهم , وشرّفوك بصحبتهم , فإنّ القبول في طريقتهم , هي أصل المنّة والقربة , ومفتاح المحبّة والوصلة , ولا تزال الخدمة ترقّ , والقلب يصفو , والمحبّة تزداد , والودّ يعلو , حتى يقول قائلهم ( متى يا كرام الحي عيني تراكم ---أو تسمع الأذن من تلك الديار نداكم ) فتضحى الخدمة غراما , والصحبة محبّة وهياما , فتثمر في القلب من النور أفواجا , وفي الروح تنتج سراجا ومعراجا , فيكثر الأدب , ويزدان الجنان بالتواضع , وبالفؤاد يحلّ النور ساطع ....
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الناظم رضي الله تعالى عنه :
واستغنم الوقت واحضر دائما معهم..... واعلم بأن الرضا يختص من حضرا
خدمة القوم تثمر المحبّة فتواصلها , وتجتذب الشوق إليهم فتداومه , كيف لا وهم كما قال الناظم السادات والسلاطين والأمراء فمن يملّ من حضور مجالسهم , أو يكلّ من مشاهدة محاسنهم , وبديع جمالهم , أو يصبر على مفارقة طيب خصالهم , هذا متى علمت أنّ مجالسهم مجالس ذكر وكلامهم كلام حكمة وتذكير وفكر وأنّها رياض جنان , وباب رحمة وحنان , وتيجان إحسان , وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم , ولا يعذّب ببركتهم رفيقهم , يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانتهم من الله تعالى يوم القيامة فكيف إذن بخديمهم أو بمحبّهم فكيف بمؤثرهم على نفسه فكيف بالفاني فيهم محبّة والعاشق فيهم هياما ومودّة ( إن قطعوا رجلي جئت على الأخرى --- وإن قطعوا الأخرى حبوت وجئت ) فحثّ الناظم هنا المنتسب الذائق , المحبّ الشائق والخادم العاشق أن ليس له من الأوقات إلاّ ما حضر فيه معهم , فلا وقت يعادل وقت صحبتهم , ولا زمان تنتقش معانيه في قلبه غير زمان خدمتهم , وقد قال بلال رضي الله عنه عند النزع ( غدا ألقى الأحبّة محمّدا وصحبه ) فليس له من الحظوظ بعد موته إلاّ حظّ الإجتماع بالإخوان , والنظر في محيّا أؤلائك الخلاّن , إذ لا تحلو الدنيا إلاّ بهم قال صحابي من الصحابة رضي الله عنهم ( ما إن نفضنا التراب من رسول الله حتّى أنكرنا قلوبنا ) ولا تحلو الآخرة إلاّ بهم ولا يكون نعيم في الجنان إلاّ في حضورهم فقال ذلك العاشق المحبّ الذائق لحبيبه عليه الصلاة والسلام ( يا رسول الله إنّ المرء ليحبّ القوم ولا يلحق بهم ) فأجابه الحبيب صلى الله عليه وسلّم ( المرء مع من أحبّ يوم القيامة ) وقال آخر ( أسألك مرافقتك في الجنّة ) فليس لهم قصدا من الجنان غير الإجتماع بالإخوان والنظر إلى وجه ربّهم الديّان , وعلى هذه المحبّة كانت صحبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وكانت صحبتهم فيما بينهم , حتى أنّ الصدّيق إستأذن أن يدفن بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثمّ إستأذن عمر رضي الله عنهما كلّ هذا تعليما لنا بالحال وتفهيما , وأنّ ديننا دين محبّة وخدمة فهما لا يفترقان , وإنّ في محبّة الصوفية بعضهم لبعض آيات مشهودة , ورايات مشهورة منشودة , ومحبّتهم لمشائخهم ليس لها صورة غير صورة أؤلائك الصحابة الكرام والخلاّن الفخام , فالحضور معهم يكون بالجسم والروح , وبالقلب والفكر , فمتى تعذّر هذا حضر هذا كما فعل بلال رضي الله عنه وهو في أرض الشام فإنّه مازال لأولائك الأحبّة ذاكرا ولتلك المحاب فاكرا , فما غفل عنهم لحظة من لحظاته حتّى قال والشوق في النزعات يغذّيه والغرام يفنيه ( وا طرباه غدا ألقى الأحبّة محمّدا وصحبه ) فإنّهم لا يفترقون لا في الدنيا ولا في اللآخرة , وهكذا هم أحباب الله تعالى ومحبّيهم وخدّامهم على العهد ماكثون وإلى اللقاء يترقّبون ويتزيّنون ومثلما تكون الدنيا تكون الآخرة
لذا قال الناظم رضي الله عنه مخبرا عن حاله , واصفا لمحابه وخصاله , بطريق الكناية , في البداية والنهاية , بأنّ الحضور معهم هو غنيمة وقتك في هذه الدنيا ( لأنّ نعمة الإخوان عظيمة ليس لها في الأثمان قيمة )
فمن لم يستغنم أوقاته معهم فليس له بهم وصال , ولا لمحاسنهم له عنها أخبار , ولا شهود جمال , لذا قال رضي الله عنه : ( واعلم بأنّ الرضا يختصّ من حضرا ) أي حضر معهم قلبا وقالبا , خدمة ومحبّة , فحتما يشمله الرضا ونهاية الكرامة والإصطفاء , لما في الرضا من الدلال والجمال , والعطايا والقرب والنوال , فإنّهم أهل الله تعالى وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم كما في الحديث عن خير الورى
قال الناظم رضي الله عنه :
ولازم الصمت إلا إن سئلت فقل..... لا علم عندي وكن بالجهل مستترا
يحكي الناظم رضي الله عنه شروط الآداب , كي يجني الفقير ثمرته من شجرة الإنتساب , فلما ذكر في البيت الثاني من القصيد قاعدة شروط الآداب وهي عدم التقدّم عليهم مهما قدّموك وخلّ حظّك وراء , بدأ بذكر تفصيل تلك القاعدة وما في طيّاتها من لزوم الآداب , فبدأ بذكر الصمت لأنّ من ترك حظّه وراء فأنّى يصحّ له الكلام , في حضرة أهل الله العارفين الأعلام , لذا أمره بإلتزام الصمت , إذ أنّه أوّل شرط من شروط تعلّم هذا العلم , فإنّه لا يصحّ التعلّم مع وجود الكلام وكثرة الحديث الموهم للعلم والفهم وكثرة الجدال كما قال سيدي محمّد المداني رضي الله عنه ( طريقنا فلا نزاع ولا جدال ) , وقد وردت أخبار نبويّة ترغّب في الصمت لما فيه من حكمة بالغة , ومنفعة حاصلة , حتّى كان الصحابة عليهم الرضوان يترقّبون قدوم الأعراب فيسألون رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيجيبهم فينتفعون بذلك فإنّ من علامة الصوفي التي تميّزه عن غيره قلّة الكلام وكثرة الحلم التي سيأتي الشيخ على ذكرها ويعني الناظم بالصمت عدم دعوى المعرفة والعلم لأنّ الفقير لا يجيء إلى القوم إلاّ بإعتقاده أنّه فقير من العلم بعد أن يغتسل من علمه وفهمه كما روي عن أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه لمّا قدم على شيخه فطلب منه أن يغتسل من علمه وفهمه كي يحصّل معارف القوم وعلومهم , لأنّ شرط النوال من القوم الصمت في حضرتهم , وحسن السمت في مجلسهم , إلاّ ما كان ضرورة من الكلام يصحّح به الدين والتوجّه والأفهام , كما سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلّم أسئلته المشهورة فقال : أخبرني عن الإسلام , أخبرني عن الإيمان , أخبرني عن الإحسان , أخبرني عن الساعة , أخبرني عن أمارتها , فكلّ سؤال لا يتعدّى كلمتين أو ثلاث , فكان الجواب من جنس السؤال , فأجابه وأمدّه بعيون جواهر الكلام , جوامع النبوّة , ومحاسن الفتوّة , وهكذا هم الصوفية الذين تلطّفت أفئدتهم فأضحت شبه ملكوتية , ومراسم نورية , فإنّهم لا يسألون إلاّ عمّا يحتاجونه في سيرهم وخدمتهم , ومرّة سألت شيخي فأطلت السؤال _ فقال لي : دعك من حشو الكلام وأوجز في السؤال , وكما قال إبن العتاهية : ( دع عنك حشو الكلام --- إذا إهتديت لعيونه ) لأنّ طريق السادة جدّ لا هزل فيه , وحقّ لا لهو فيه , والصوفية لا يحبّون الفقير الثرثار الكثير الكلام , إلاّ فيما ينفعه وينفع النّاس , لذا أوصى الناظم رضي الله عنه الفقير بلزوم الصمت في حضرة الإخوان , إذ أنّ كلامهم في الحقيقة لا يكون إلاّ غلبة , إمّا لفيضان وجد , وإمّا لهداية مريد , واليوم الكثير من الفقراء يعيبون على شيوخهم عدم كثرة الكلام معهم لظنّهم أنّه طريق كلام , ولكن طريق القوم هو حضرة الله من آدابها الصمت في حضرة الشيخ والإخوان إلاّ متى سألوه أو طلبوا منه الكلام , فوقتها كما قال الناظم يصحّ له حكاية حالة وبيان فقره وإفتقاره وذلك في قوله ( إلاّ إن سئلت فقل لا علم عندي وكن بالجهل مستترا ) فالفقير لا يخرج إلاّ في أوصافه من فقر وذلّ وجهل وضعف لأنّه في سيره إلى طلب رضا ربّه ومعرفة مولاه وخالقه في مجاهدة نفسه قائما والنفس دائما ترنو إلى الظهور , وتحبّ التميّز عن الأقران يتلوه منه حال أو قال أو فعل علامة غرور , لذا تحتّم عليه الإستتار بالجهل إذ أنّه وصفه الملازم له المقيم فيه , لما في السؤال منهم ما قد يكون لك من الإختبار , أو علامة على سوء أدبك معهم أوما دلّت عليه سيمتك من الإفتخار , فالسلامة في الإستتار, وقولك : لا علم عندي , وكيف يكون لي علم, وأنا جئت طالبا علومكم , وسائلا راغبا فهومكم , لأنّ بسؤالهم لك في محلّ الإختبار قد يكون منهم لمعرفة مدى دعواك في نفسك وما لك فيها من الإنتصار , فيمنعوك في هذه الحالة علومهم , ويقطعون عنك معارفهم وفهومهم , وهذا الحال قد دلّت عليه آيات بيّنات , من سيرة الصحابة الكرام , فكم مرّة يسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم , فيقولون : الله ورسوله أعلم , يستترون بفقرهم , ونهاية ضعفهم , وإنّما يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم لينفعهم , فيسأل عليه السلام ليجيب , وهكذا هم القوم بأخلاق نبيّهم إقتدوا , ومن كأسه شربوا , فقد يسألونك ليجيبوك فيفيدوك , ولهذا ترى في بعض أجوبة الصحابة من الحكمة ودعوى قلّة العلم , كفي حديث : من المفلس : قالوا : المفلس فينا من لا زاد له ولا متاع , رغم أنّهم يعرفون أنّ رسول الله لا يسألهم عن الدنيا ولا عن هذا , فإستتروا بالفقر من العلم ليعلموا , وهكذا دأب أهل الله تعالى في صحبتهم لمشائخهم وإخوانهم , لذا قال الناظم : ( ولازم الصمت إلاّ إن سئلت فقل --- لا علم عندي وكن بالجهل مستترا )
قال الناظم رضي الله عنه : ( ولا تَرَ العَيبَ إلا فيكَ مُعتقِدا --- عَيباً بدا بيناً لكنه اسْتترا )
الفقير متى صحب القوم لينال فوائدهم , وينتفع بمآثرهم , لا بدّ له من ترويض قلبه بخدمتهم ليصلح عوائده , ويتخلّص من معايبه , وبداية هذا أن لا يلاحظ العيب والنقصان إلاّ في نفسه , لأنّه أتى إليهم معتقدا جهله وذنوبه , ومراعيا بعده عنهم وكثرة خطوبه , فقدم عليهم فيما هم فيه من الصلاح والتزكية راغبا , ولما هو عليه من الأسقام والدعوى راهبا , فإنّ القوم يغفرون الذنوب ويغضّون الأبصار عن العيوب , فالفرق بين الذنب وبين العيب أنّ الذنب يكون في وقت متى كان دون وقت بخلاف العيب فإنّه حالة ملازمة لصاحبها ما دام لم تتزكّى نفسه ويطيب معناه ومبناه , فما دام العيب موجودا وهو من أعظم الذنوب جزمت بمعافستك للذنب وهذا ما استوجب منك الإستغفار بلا سبب والمقصود بالسبب أنّ عيبك المستتر الذي هو عيبك الملازم لك يقتضي منك دوام الإستغفار , وملاحظة التقصير ودوام الإعتراف كما بيّن لك ذلك في قوله : ( وحطّ رأسك واستغفر بلا سبب --- وقم على قدم الإنصاف معتذرا ) وهذا سيأتي عليه فلا ترى العيب أيّها المريد إلاّ فيك معتقدا , جازما معترفا , بما تراه في قرارة نفسك منه ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ) وإنّما قال معتقدا : أي قلبا وحقيقة وليس فقط مجازا ظاهرا , فإنّ الإرادة تستوجب دوام اعتقاد العيب , وملازمة الإستغفار من الذنب , وهذا ما تراه عند القوم من كثرة إتّهامهم لنفوسهم , وكثرة مداومة إستغفارهم , ومراعاة التخلّص من حظوظهم ودعاويهم كي لا تفسد إرادتهم , فإنّ هذا العيب وإن كان مستترا عن العيون , فهو لا ينحجب عن العيون الباطنة , فكانت رؤيتك إيّاه في قرارة نفسك أمر يشاركك فيه أهل البصيرة كالشيخ المربّي الذي يعرف طرق معالجتك ودواءك النافع , فمتى اعتقدت العيب فيك أسهلت على الشيخ علاجك كزائر الطبيب , هذا فضلا عن علم الله تعالى فيك وبعيبك لقوله تعالى ( وكفى بربّك بذنوب عباده خبيرا بصيرا ) فمتى راعيت وراقبت عين مولاك الذي يتولاّك ويرعاك وعلمه به وبعيوبك وذنوبك وقفت على حدود حقيقتك , وتأدّبت على منهاج طريقتك , فاعتقدت العيب والنقصان , وداومت على الهروب منه والهجران , وعلامة هذا أن لا ترى عيبا من عيوب إخوانك إلاّ فيك , لأنّهم مرآتك , قال سيّدنا عمر رضي الله عنه ( رحم الله إمرء أهدى إليّ عيوبي ) أي ظاهرا وباطنا , هديّة قولية وهدية حالية , والحال عند الأبرار يغني عن المقال , فمهما استتر العيب فلا يمكنك إلاّ أن تعتقده , لأنّ إستتاره لا يخرجك عن إعتقاده , لوجود عين الله تعالى التي لا يجب أن تراعي سواها , فمتى إعتقدت عيبك رحمك الله تعالى فستره عن غيرك غالبا , فمراده منك دوام إعتقاده , كي تثبت قدمك في السير إليه , أمّا إذا لم تعتقده ورفضت الإعتراف به في قرارة نفسك كما فعل إبليس لعنه الله فحتما إنّ الله تعالى سيخرج أضغانك آجلا أم عاجلا , ويعفو الله عن كثير , وقد ورد في الدعاء : اللهم استرنا بسترك الجميل , اللهم لا تفضحنا في الدنيا ولا في الآخرة
فالناظم رضي الله عنه يريد هنا أن يأخذ بيدك في السير شيئا فشيئا كي لا يثنيك عن الوصول إلى الله تعالى نفس ولا دعوى ولا رياء ولا نفاق , فتكون كما أنت وكما يعلمه الله منك , ظاهرك كباطنك , فلا تفضح نفسك بعد أن سترك الله , ولا تستر عيبك بعد أن أظهره الله , بل قم على قدم الإنصاف معتذرا كما سيأتي قال الناظم : ( عيبا بدا لكنّه استترا )
لتعلم أنّ عيوبك عند شيخك وأهل البصيرة ظاهرة , ولكنّهم ستروها بستر الله عليك , لأنّ غرضهم تربيتك لا فضيحتك , هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ولا يعذّب خديمهم , لذا قال : ( عيبا بدا ) فأبهم لمن بدا , لتعرف أنّ الناظم من شيوخ تربية المريدين , فكيف يعالجك شيخ لا يدري عيوبك أو لا يشاهد عليك آثار ذنوبك , مرّة كنت أفعل المعاصي كثيرا وكنت أقدم على شيخي رضي الله عنه متزيّنا حالة المنافقين بما تراه من حسن الملبس وفصاحة الكلام ودعوى التهذيب والإحتشام فلمّا لاحظ ذلك منّي كاشفني بعيب من عيوبي في ذلك المجلس من غير شعور لأحد من الحاضرين في ذلك المجلس إلاّ ما كان من دقيق بصيرة العارفين الذين لا تخفى عليهم الأشائر ولا المقاصد للضمائر , فقال وأنا أسمع : كان شخص من الناس يفعل كذا وكذا فلو كان معي لقلت له كذا وكذا ... فقصدني بهذا الكلام فكاشفني بعيوب لا يعلمها منّي غير الله تعالى , ومرّة في شهر رمضان قلت له : ماذا فعل فيكم رمضان وكنت أقصد شدّة الحرّ , فأجابني : بل نحن ماذا فعلنا في رمضان , فسكتّ سكوت المسيء أدبه لما أنا فيه من حالة الذنوب والعيوب , فالحمد لله على نعمة مشائخ التربية وجازاهم الله خيرا
فالناظم هنا كأنّه يقول للمريد : يا هذا لا تعتقد غير عيبك الذي فيك نشاهده ومنك نشمّ فيك رائحته , فمن لم ير العيب فيه معتقدا فقد ادّعى الكمال هواجس تلك النفس الأمّارة بالسوء فما أجمل وما أحلى أن يكون الإنسان معتقدا لعيبه ملاحظا لذنبه , شعورا وإحساسا , ذوقا وصدقا , هنا يتبرأ من الدعاوي وما إلى هنالك من المخازي فما أجمل هذه القصيدة فكما قال أخونا محبّ الشعراني هي كالحكم العطائية
قال الناظم رضي الله عنه :
( وحـط رأسك واستغفر بلا سبب ** ** وقف على قدم الإنصاف معتذرا )
حاصل طريق القوم الخلاص من ضنك عيش النفس , إلى الأنس في حضرة القدس , فيكون هذا بمتابعة الشريعة , والقصد بحسب مناهج الطريقة , حتّى تزفّ الروح إلى بحار الحقيقة , وعنوان هذا كلّه ما تراه مرسوما في هذه الأبيات من آداب , فهي خلاصة مركوب المريد إلى حضرة الأحباب فبعد أن يعتقد المريد بعيبه , ويستشعر من نفسه كثرة كبريائه وغيّه , وما عليه حاله من البعد , وفؤاده من الدعوى والفقد , يتلوه شاهد منه , بما يراه في مرآته الذين هم إخوانه في الطريقة , وخلاّنه في مقامات الحقيقة , من السمت والأدب , والعمل وحال القرب , فإنّه حتما يحتشم خجلا , ويحطّ رأسه معترفا جزما , لما في حطّ الرأس من إعتراف واعتذار , وما فيه من الفناء عن وصف النفس مظنّة الأغيار , فلا يستشعر في مقام صحبتهم غير ذنوبه , ولا في مجالسهم غير جهله وعيوبه , فمن أتى إخوانه فارغا , رجع من عندهم عبدا واصلا , لما في سجيّتهم من الكرم , وفي طبائعهم من الوداد والنعم , فإنّ الفقير متى كان بهذا الوصف , أنصف واتّصف , فراعى إخوانه بعين التعظيم , وذكر أسماءهم بما يدلّ على التفخيم , وهذا كلّه تشهده في السيرة النبويّة , وتراه اليوم في خلاصة الفرقة الربّانية , فأمرنا الله تعالى أن لا نجعل دعاء الرسول بيننا كدعاء بعضنا بعضا قال تعالى : (لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا ) لأنّه سيّد أهل النسبة صلى الله عليه وآله وسلّم , وكذلك تعظيمنا لأهل بيته الكرام وصحابته الأعلام , حتّى غدا النبيّ صلى الله عليه وسلّم يقول لسيّدنا أبي بكر رضي الله عنه عندما قال قولا لبلال وصهيب رضي الله عنهما : ( إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربّك ) فذهب الصدّيق حاطّا رأسه معتذرا , وقائما بين أيديهما طالبا الصفح ملتمسا , فما حجبته منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن توفية حقوق أهل النسبة , فالمراتب لا شفاعة لها أمام توفية الآداب مع الإخوان , كحال إبليس لمّا أساء الأدب مع أهل النسبة آدم عليه السلام , فمتى استشعر المريد كثرة حقوق إخوانه عليه , اعترف بالذنب منصفا بين يديه , فحطّ رأسه في حضرتهم باكيا , ولسان حاله ينوح معترفا شاكيا : فإن تطردوني كنت عبدا لعبدكم ..... وإن تصلوني كان قصدي رضاكم فإن ترحموني كان منكم تقضّلا ..... على الله رب العالمين جزاكم
لذا أشار الناظم رضي الله عنه هنا أنّ حطّ الرأس في مجالس الإخوان ومحاضر الخلاّن , والإستغفار بلا سبب نتيجة إعتقاد المريد بعيب نفسه وكثرة إخلاله بحقوق إخوانه إذ أنّه شرّف بصحبتهم , وأكرم بخدمتهم , فتراه لذنوبه ذاكرا , ولعيوبه فاكرا , كي يتعوّد البحث عمّا يرضيهم عنه , فإنّه في حماهم يتنعّم , وفي مزاياهم يكرم , ( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ) , ولا يضام رفيقهم , فطوبى لمن أحبّهم , وسعد من خدمهم , فحمل عنهم كلّياتهم , بجميع إمكاناته , وبعد هذا يشاهد التقصير من نفسه , فيستغفر في سرّه معتقدا إنصافا , وخجلا روحا وأطرافا , فلله درّ الإخوان ما أحسن شيمتهم , وما أطيب طلعتهم , هم السلاطين والسادات والأمراء , فأنّى يا فقير أن تؤدّي جمائلهم , أو تردّ مكارمهم , أو توفّي حقوق محاسنهم : أيا ساكنين الروح والقلب والحشا .....حاشاكم أن تقطعوني حاشاكم وإن صاح صائح أو نادى بذكركم ..... فسمعي له صاغ يراعي نداكم
قال الناظم رضي الله عنه :
إن بدا منك عيب فاعتذر وأقم .......وجه اعتذارك عما فيك منك جرى
الشرح :
الفقير متى أحبّ إخوانه , وفنى في غرام خلاّنه , أقامهم مقام ذاته بما ينسبه إليهم معتقدا فيهم محاسن المحامد والشيم , وأقام نفسه مقام ذواتهم بما يراه في مرآته فيهم من كثرة عيوبه وذنوبه , وذلك فلأنّهم مرآته فلا يرى فيها غير عيبه وذنبه , وآثار كربه , فمتى كان مرآتهم فلا يرون فيه غير محاسنهم الجميلة , وأخلاقهم الحميدة , ومتى كانوا مرآته فلا يشهد فيهم غير عيوبه وذنوبه , هذا مقام المبتدئين من المريدين , والقاصدين من السائرين , وبما أنّ العيوب غالبا ما تكون كامنة , خافية عن النظر , مستترة عن أعين البشر , لكنّها قد تبدو من الفقير في كلّ وقت وحين في محضر الإخوان , أصفياء الجنان , لأنّ كثرة صفائهم مظهرة مهما استتر الكثير من العيوب , وما لا يمكنك حجبه من العيوب , لهذا أشار الناظم رضي الله عنه بقوله : ( إن بدا منك عيب فاعتذر وأقم ) لأنّ العيب كامن وقد يبدو في بعض الأحيان , هذا متى اسشتعره الفقير بالجنان , فهو بين حالتين , وفي مرتبة بين مقامين : إعتقاد العيب , كما قال الناظم : ( ولا ترى العيب إلاّ فيك معتقدا ) والدرجة الثانية : الإعتراف والإعتذار من الذنب متى بدا من هذا العيب , لأنّ مصدر الذنوب , ما كمن في النفس من العيوب , فهو بين حالة دائمة من اعتقاد العيب وهو الأصل , وبين حالة غير دائمة وهي الإعتراف والإعتذار متى بدا ذنب من هذا العيب , فالأوّل يوجب حطّ الرأس ودوام الإستغفار , والثاني يستلزم القيام بوجه الإعتذار , حاله في ذلك في الشاهد كحاله مع ربّه لأنّهم أهل نسبته , وخواص أصفياء حضرته , لذا قال الناظم موضحا هذا : ( عمّا فيك منك جرى ) فالعيب ( فيك ) والذنب ( منك ) فهو بيت حالتين , حقيقة وشريعة , حقيقته إعتراف , وشريعته اعتذار , فالأوّل : لجام النفس في سريرتها وذلك باعتقاد العيب , والثاني : لجامها في ظاهريتها وذلك بالإعتذار والإعتراف , فهذا لدوام الإستغفار فيما بينك وبين ربّك , وهذا للإعتذار فيما بينك وبين عباده وخواص عبيده
قال الناظم رضي الله عنه :
وقـل عـبيدكموا أولى بصفحكموا ...........فـسامحوا وخـذوا بـالرفق يا فقرا
فقل أيها الفقير الصادق بلسان حالك مع خشوع مقالك , أن هذا عبيدكم الضعيف , البعيد الكفيف , الجاني بالتقصير على نفسه , البعيد عن حضرة قدسه , هو أولى الناس بصفحكم , فإنّه أكبرهم عيوبا , وأكثرهم ذنوبا , وفي قوله ( عبيدكم ) تصغير للعبد , حتّى لا يظنّ بنفسه أنّه يصلح لخدمتهم , فضلا عن مزايا صحبتهم , قال شيخنا اسماعيل رضي الله عنه ( لو كنت في عصر الجنيد ما ارتضوني أن أكون القائم على دوابهم ) فالفقير متى اعتقد بعيبه , واعترف بذنبه , فإنّه حتما يقوم بوجه الاعتذار , ولكن ليس كأي اعتذار , فهناك اعتذار المفارقة , واعتذار المواصلة , بما أنّ الفقير لا يحسن مفارقتهم , ولا يصبر على عدم مواصلتهم , فجعل نفسه كالعبد عند سيّده , فهو مملوك لهم , لا اختيار له إلاّ فيما يختارونه له , فهذا اعتذار العبد عن عدم توفية حقّ صاحب نعمته , لذا تراه لا يرقب فيهم غير رضاهم عنه , فيتملّق لهم بأسباب الرضا , ويمرّغ وجهه في تراب نعالهم , ولسان حاله يقول :
لقد أتيت الحمى بذل .... ضيفا نزيلا فاكرموني وجئت عبدا لكم محبا.... فهل عساكم أن تقبلوني أيا كرام العباد جودوا.... ذنوب قلبي قد اثقلوني
فلمّا كان قلبه من الرقّة بلغ أفواجا , ومن الصدق معهم ركب أهوالا وأمواجا , نادى لسان حاله , فأنطق مقاله , حيث لا صمت عند الاعتذار , ولا سكون عند التملّق والافتقار , قائلا : ( خذو بالرفق ) أيّها السادة , فإنّي ببطحاء جمالكم , وفي رحاب طيب خصالكم , أتعلّق بأذيالكم , وأتلثّم آثار نعالكم , فخذو ا بالرفق أن تقطعوني وصالكم , فلا صبر لي بعد أن تيّهني دلالكم , فمهما أذنبت في حقّكم , أو لست بعبدكم ؟ , بل عبد عبد لعبدكم , فخذو ني برفقكم , فلا طاقة لي على هجركم , لما في قلبي من مهج صفائكم , وفي فؤادي رسوم حنانكم , فحاشاكم أن تقطعوني مهما أذنبت , أو تفضحوني مهما زللت , أو لا تسامحوني مهما غفلت , فخذوني برفقكم كما أخذتم روحي وفؤادي بملاطفتكم , فسامحوني على ذنبي , وخذوني برفقكم على عيبي ...
قال الناظم رضي الله عنه :
هـم بـالتفضل أولى وهو شيمتهم ....... فـلا تـخف دركـا مـنهم ولا ضررا
متى كان الفقير في حالة دوام الإستغفار , والمبادرة كلّما أذنب إلى الإعتراف والإعتذار , وشهود العيب فيه ووصف الإفتقار , بدلالة حاله عليه , وشهادة أعذاره التي قدّمها بين يديه , لما بلغه من جَهْد في طلب الصفح منهم , و التماس العفو عندهم , فإنّ حاله هذا الذي بلغ من العيب نهايته , ومن كثرة الذنب غايته , لا يحسن أن يسعفه فيه أحد , حتّى جزم بالهلاك والبعد , وبالرجوع والفقد , أنشط الناظم رضي الله عنه هنا رجاءه , وحيّر مكامن أمله , فأخبره أنّ حاله هذا لا يصلح أن يجبره غير من إتّخذ من الخُلق الكريم وصفا , وشرب من بحار الشمائل والصفاء رشفا وغرفا , وليس ذاك إلاّ ساداته الفقراء , بقيّة أهله النجباء , فقال : ( هم بالتفضّل أولى وهو شيمتهم ) لأنّهم أولى الناس بالعفو والمسامحة والكرم , لتخلّقهم بأخلاق مولاهم وبأخلاق رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام , المقول فيه : ( وإنّك لعلى خلق عظيم ) , فلو لا أن يكون من شيمتهم إلاّ محبّة الخير له لكفاه , فكيف وهم حملوا عنه ما آلمه وأحزنه , وما أقلقه وأهمّه , ( عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: " سل؟ ". فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: " أو غير ذلك" قلت: هو ذاك. قال: " فأعني على نفسك بكثرة السجود ) فإنّه متى سألهم أعطوه , ومتى أعطوه أجزلوه , فكيف وهو على أبوابهم مقيم وجه الإعتذار , وقاصدا إليهم بالإعتراف والإفتقار , فحاشاهم أن يحرموه , أو لا يُرضوه فيمنعوه , بل ما أوصدوا لأحد بابا , ولا وضعوا بينهم وبينه إستكبارا أو علوّا أو حجابا , فإنّ من حسن سمتهم ما يجتذب القلوب , وفي بهائهم وحسنهم ما ينسيه جميع العيوب والكروب , فإنّهم الرحمات المهداة , والنسمات الفائحات , فأن يسأل أو يعتذر ممّن كان الخير شيمته , وكان الفضل صفته , فحاشى أن يعود خائبا , أو يرجع زاهدا فيهم راهبا , وقد قيل على لسانهم :
نحن قوم إذا أتانا محب ..... عاد من سكره به نشوانا واذا جاء فارغا من سوانا..... عاد من فيض سرنا ملآنا
لذا قال الناظم رضي الله عنه : (فـلا تـخف دركـا مـنهم ولا ضررا ) فإنّهم أهل آمان لا تخف منهم دركا , وأهل حماية ونفع فلا تخف منهم ضررا , فهذه علامتهم , وتلك ميزتهم , فلذ بهم , وفز في رحابهم , فإنّهم أهل نسبة الله لا تخف أيّها المريد منهم دركا ولا ضررا , فهل عوّدوك إلاّ جمالا , أم أهدوك إلاّ دلالا , فلا لذّة تعادل لذّة صحبتهم , ولا شرف يوازي شرف خدمتهم , فهم عرائس الوجود , وبقية الجمال الموجود ... فلا تيأس منهم ومن فضلهم أيّها المريد , مهما قاطعوك , أو أظهروا أنّهم ما واصلوك , بل أنت بأعينهم , لا ينسون أفضال خدمتك , أو دواعي محبّتك , إذ عنوان طريقتهم الوفاء , ومنشور ولايتهم الصفاء , فلا تتّهمهم , أو تيأس فتغتابهم ...
*****************************
| |
|